فصل: الشاهد السادس والثلاثون بعد الخمسمائة(br)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


الشاهد السادس والثلاثون بعد الخمسمائة

المديد

ولها بالماطرون إذ *** أكل النمل الذي جمعا

على أن أبا علي، قال‏:‏ الماطرون مجرور بكسرةٍ على النون‏.‏

أقول‏:‏ قاله في باب ما جعلت فيه النون المفتوحة اللاحقة بعد الواو والياء في الجمع حرف إعراب من كتاب إيضاح الشعر، وهذا نصه‏:‏ اعلم أن هذه النون إذا جعلت حرف الإعراب، صارت ثابتة في الكلمة، فلم تحذف في الإضافة كما كانت تحذف قبل، كما لا تحذف نون فرسن وضيفن ورعشن ونحو ذلك من النونات التي تكون حرف إعراب، وإن كانت زائدة‏.‏

ويكون حرف اللين قبلها الياء، ولا يكون الواو، لأن الواو تدل على إعرابٍ بعينه، فلم يجز ثباتها، من حيث لم يجز ثبات إعرابين في الكلمة‏.‏

ألا ترى أنهم إذا نسبوا إلى رجلان ونحوه من التثنية حذفوا، فقالوا‏:‏ رجليٌّ، مع أن الألف قد لا تدل على إعراب بعينه؛ لأن قوماً يجعلون حرف الإعراب في الأحوال الثلاث ألفاً‏.‏

فإذا حذفوا ذلك مع أنهم قد جعلوها بمنزلة الدال فيه، لا يكون لإعرابٍ مخصوص، فأن لا تثبت الواو الدالة على إعراب مختصٍّ أولى‏.‏

فأما من أجاز ثبات الواو في هذا الضرب من الجمع، وزعم أن ذلك يجوز فيه، قياساً على قولهم‏:‏ زيتون، فقوله في ذلك يبعد من جهة القياس، مع أنا لم نعلمه جاء في شيء عنهم‏.‏ وذلك أن هذه الواو لم تكن قط إعراباً ولا دالاًّ عليه، كما كانت التي في مسلمون‏.‏

فالواو في زيتون كالتي في منجنون، في أنه لم يكن قط إعراباً، كما أن التي في منجنون كذلك‏.‏ وعلى ما ذهب إليه الناس جاء التنزيل، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا طعامٌ إلا من غسلين‏}‏، لما صارت النون حرف إعراب، صار حرف اللين قبله الياء‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لفي عليين وأدراك ما عليون‏}‏‏.‏

فأما قول الشاعر‏:‏

ولها بالماطرون إذ *** أكل النمل الذي جمعا

فأعجميٌّ، وليست الواو فيه إعراباً كالتي في سنين‏.‏ فأما ثبات الياء في سنين وفلسطين وقنسرين فإنها لما لم تدل على إعراب، بعينه، أشبهت الياء التي في شمليل وقنديل، ولذلك ثبتت في النسب ولم تحذف كما حذف ما يكون في ثباته في الاسم اجتماع علامتين للإعراب‏.‏

وقد كثر هذا الضرب من الجمع، حتى لو جعل قياساً مستمراً، كان مذهباً‏.‏ انتهى‏.‏

ومثله قول ابن جني في سر الصناعة‏:‏ فأما الماطرون فليست النون فيه بزائدة، لأنها تعرب‏.‏

قال‏:‏

ولها بالماطرون إذا

بكسر النون، فالكلمة إذاً رباعية‏.‏ انتهى‏.‏

وفيه ردٌّ لمن جعل الكلمة ثلاثية، كصاحب القاموس، فإنه قال في مادة مطر‏:‏ وماطرون‏:‏ قرية بالشام‏.‏

وفيه أنه كان يجب أن يقول‏:‏ الماطرون‏.‏

وقد خالف الجوهري فرواه الناطرون بالنون، وقال‏:‏ الناطرون‏:‏ موضعٌ بناحية الشام، والقول في إعرابه، كالقول في نصيبين، وينشد هذا البيت بكسر النون‏:‏

ولها بالناطرون إذ ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

ورد عليه الصاغاني في العباب، فقال‏:‏ الماطرون‏:‏ موضع قرب دمشق‏.‏ وقال بعض من صنف في اللغة‏:‏ الناطرون‏:‏ موضع بناحية الشام‏.‏

وكذلك غلطه صاحب القاموس‏.‏ ولم يذكره أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم‏.‏

وقال العيني كالشارح المحقق‏:‏ في شرح كتاب سيبويه‏:‏ الماطرون بالميم وطاء مفتوحة، والمشهور الماطرون بالميم وكسر الطاء‏.‏ وقال أبو الحسن القفطي‏:‏ الماطرون‏:‏ بستانٌ بظاهر دمشق‏.‏

ثم قال‏:‏ والبيت من أبياتٍ ليزيد بن معاوية بن أبي سفيان تغزل بها في نصرانية قد ترهبت في ديرٍ خراب عند الماطرون، وهو بستان بظاهر دمشق يسمى اليوم الميطور‏.‏

وأولها‏:‏ المديد

آب هذا الليل فاكتنع *** وأمر النوم فامتنعا

راعياً للنجم أرقبه *** فإذا ما كوكبٌ طلعا

حال حتى إنني لأرى *** أنه بالفور قد رجعا

ولها بالماطرون إذ *** أكل النمل الذي جمعا

خرفةٌ حتى إذا ارتبعت *** سكنت من جلقٍ بيعا

في قبابٍ حول دسكرةٍ *** حولها الزيتون قد ينعا

آب‏:‏ رجع‏.‏ واكتع‏:‏ افتعل من الكنع، بالكاف والنون، قال صاحب العباب‏:‏ اكتنع الليل‏:‏ حضر، ودنا‏.‏ وأنشد هذا البيت‏.‏ وأمر بالبناء للمفعول بمعنى، جعل مراً‏.‏

وقوله‏:‏ ولها بالماطرون اللام متعلقة بمحذوف على أنه خبر مقدم، وخرفة‏:‏ مبتدأ مؤخر، وضمير المؤنث للنصرانية التي تغزل بها، وبالماطرون فاعل لها، وإذا ظرف عامله متعلق باللام‏.‏ والخرفة بضم الخاء المعجمة وبالفاء‏:‏ المخترف والمجتنى، وقيل ما يجتنى‏.‏ وهذه الرواية رواية المبرد في الكامل‏.‏

وروى صاحب العباب في البيت‏:‏ خلقة بالكسر بدل خرفة‏.‏ وقال‏:‏ خلفة الشجر‏:‏ شجرٌ يخرج بعد الثمر الكثير‏.‏

وكذا روى العيني عن ابن القوطية، أنه قال‏:‏ الرواية هي الخلفة باللام، وهو ما يطلع من الثمر بعد الثمر الطيب‏.‏ والجيد عندي رواية الخلفة على أنها اسمٌ من الاختلاف، أي‏:‏ التردد‏.‏ والنمل‏:‏ فاعل أكل، والذي‏:‏ مفعوله، والعائد محذوف، أي‏:‏ جمعه‏.‏ وارتبعت‏:‏ دخلت في الربيع‏.‏ ويروى‏:‏ ربعت بمعناه‏.‏

ويروى‏:‏ ذكرت بدل سكنت‏.‏ وجلق، بكسر الجيم واللام المشددة المكسورة‏:‏ مدينة بالشام‏.‏ ومن جلق كان صفة لقوله بيعا، فلما قدم عليه صار حالاً منه‏.‏ وبيعا‏:‏ مفعول سكنت وذكرت، وهو جمع بيعة بالكسر‏.‏

قال الجوهري وصاحبا العباب والمصباح‏:‏ هي للنصارى‏.‏ وقال العيني‏:‏ البيعة لليهود، والكنيسة للنصارى‏.‏ وهذا لا يناسب قوله إن الشعر في نصرانية‏.‏

ومعنى البيتين أن لهذه المرأة تردداً إلى الماطرون في الشتاء، فإن النمل يخزن الحب في الصيف، ليأكله في الشتاء، ولا يخرج إلى وجه الأرض من قريته‏.‏ وإذا دخلت في أيام الربيع، ارتحلت إلى البيع التي بجلق‏.‏

وقال العيني‏:‏ قوله بالماطرون صفةٌ لخرفة ‏.‏ وهذا مخالفٌ لقولهم إن صفة النكرة إذا تقدمت صارت حالاً منه‏.‏ وقال‏:‏ إذا للوقت، والتقدير‏:‏ لها خرفة وقت أكل النمل ما جمعه‏.‏

وقوله‏:‏ في قباب حول إلخ، الظرف‏:‏ صفة لقوله بيعا، وهو جمع قبة‏.‏ والدسكرة، بفتح الدال، نقل صاحب العباب، عن الليث أنها بناءٌ يشبه قصراً حوله بيوتٌ، وجمعها دساكر، تكون للملوك‏.‏ وينع‏:‏ لغةٌ في أينع، أي‏:‏ نضج واستوى‏.‏

قال المبرد في الكامل‏:‏ أينعت الثمرة إيناعاً، أي‏:‏ أدركت‏.‏ وينعت ينعاً وينعاً بالفتح والضم‏.‏

ويقر‏:‏ انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه وينعه كلاهما جائز‏.‏

وأنشد هذه الأبيات الثلاثة الأخيرة، وقال‏:‏ قال أبو عبيدة‏:‏ هذا الشعر يختلف فيه، فبعضهم ينسبه إلى الأحوص، وبعضهم ينسبه إلى يزيد بن معاوية‏.‏ انتهى‏.‏

وقد سها العيني هنا في قوله‏:‏ الاستشهاد بالماطرون حيث نزل منزلة الزيتون في إلزامه الواو وإعرابه بالحروف ، وصوابه وإعرابه بالحركات‏.‏

ولو استشهد الشارح المحقق، بقوله‏:‏ الخفيف

طال ليلي وبت كالمجنون *** واعترتني الهموم بالماطرون

كما استشهد به ابن هشام في شرح الألفية لكان أولى، فإن كسرة النون صريحة، لوقوعها في القافية‏.‏

وهو مطلع قصيدة، وبعده‏:‏ الخفيف

صاح حيا الإله حياً ودور *** عند أصل القناة من جيرون

عن يساري إذا دخلت إلى الد *** ر وإن كنت خارجاً فيميني

فلتلك اغتربت بالشام حتى *** ظن أهلي مرجمات الظنون

هي زهراء مثل لؤلؤة الغ *** واص ميزت من جوهرٍ مكنون

وإذا ما نسبتها لم تجده *** في سناءٍ من المكارم دون

تجعل المسك واليلنجوج والن *** د صلاءً لها على الكانون

ثم خاصرتها إلى القبة الخض *** راء تمشي في مرمرٍ مسنون

قبةٌ من مراجلٍ ضربته *** عند حد الشتاء في قيطون

ثم فارقتها على خير ما ك *** ن قرينٌ مقارناً لقرين

فبكت خشية التفرق للبي *** ن بكاء الحزين إثر الحزين

ليت شعري أمن هوًى طار نومي *** أم براني ربي قصير الجفون

وجيرون‏:‏ بابٌ من أبواب دمشق‏.‏ والرجم‏:‏ الكلام بالظن‏.‏ واليلنجوج، بجيمن‏:‏ عود البخور‏.‏

وروى بدله‏:‏ الألوة بفتح الهمزة وضم اللام، وهو العود أيضاً‏.‏ والصلاء، بالكسر والمد‏:‏ التدفي بالنار‏.‏ والمخاصرة‏:‏ أن يضع كل واحد من اثنين يده على خصر الآخر‏.‏ والمسنون‏:‏ الأملس المجلو‏.‏ والمراجل‏:‏ جمع مرجل بالكسر‏.‏

وقال ابن الأعرابي وحده‏:‏ بفتح الميم، هو ضربٌ من برود اليمن‏.‏ كذا في العباب‏.‏

وأخطأ العيني في قوله‏:‏ هو القدر من النحاس، إذ لا مناسبة له هنا‏.‏ والقيطون‏:‏ المخدع‏.‏

قال العيني‏:‏ هذه القصيدة لأبي دهبلٍ الجمحي، وهو شاعرٌ إسلاميٌّ شبب فيها بعاتكة بنت معاوية، حين حجت ورجع معها إلى الشام، فمرض بها‏.‏ ويقال‏:‏ إن يزيد قال لأبيه، إن أبا دهبل ذكر رملة ابنتك، فاقتله‏.‏ فقال‏:‏ أي شيءٍ قال‏؟‏ قال‏:‏

هي زهراء مثل لؤلؤة الغ *** واص‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

قال معاوية‏:‏ لقد أحسن قال‏:‏ فقد قال‏:‏

وإذا ما نسبته ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

قال‏:‏ صدق قال‏:‏ فقد قال‏:‏

ثم خاصرتها إلى القبة ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

فقال معاوية‏:‏ كذب وقال ثعلب‏:‏ حدثنا الزبير، قال‏:‏ حدثني مصعب، قال‏:‏ حدثني إبراهيم بن أبي عبد الله، قال‏:‏ خرج أبو دهبل يريد الغزو، وكان رجلاً صالحاً جميلاً، فلما كان بجيرون، جاءته امرأة، فأعطته كتاباً، فقال‏:‏ اقرأ لي هذا الكتاب‏.‏ فقرأه لها، ثم ذهبت فدخلت قصراً، وخرجت إليه، فقالت‏:‏ لو تبلغت معي إلى هذا القصر فقرأته على امرأةٍ فيه، كان لك فيه أجر‏.‏

فبلغ معها القصر، فلما دخله فإذا فيه جوارٍ كثيرة، فأغلقن عليه القصر، وإذا امرأةٌ وضيئةٌ تدعوه إلى نفسها، فأبى، فحبس، وضيق عليه، حتى كاد يموت‏.‏

ثم دعته إلى نفسها، فقال‏:‏ أما الحرام فو الله لا يكون، ولكن أتزوجك‏.‏ فتزوجته، وأقام معها زماناً طويلاً لا يخرج من القصر، حتى يئس منه، وتزوج بنوه وبناته، واقتسموا ماله، وأقامت زوجته تبكي عليه حتى عميت‏.‏

ثم إن أبا دهبل، قال لامرأته‏:‏ إنك قد أثمت في، وفي أهلي وولدي، فأذني لي في المصير إليهم، وأعود إليك‏.‏ فأخذت عليه العهود أن لا يقيم إلا سنة‏.‏ فخرج من عندها، وقد أعطته مالاً كثيراً، حتى قدم على أهله، فرأى حال زوجته، فقال لأولاده‏.‏ أنتم قد ورثتموني، وأنا حيٌّ، وهو حظكم، والله لا يشرك زوجتي فيما قدمت به أحد‏.‏ فتسلمت جميع ما أتى به‏.‏

ثم إنه اشتاق إلى زوجته الشامية، وأراد الخروج إليها، فبلغه موتها، فأقام، وقال هذه القصيدة‏.‏

ويقال‏:‏ إنها لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت‏.‏ وذهب إليه الجوهري وغيره‏.‏

وقال ابن بري‏:‏ الصحيح أنها لأبي دهبل‏.‏ انتهى كلام العيني‏.‏

ولم ينسبها أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني إلا لعبد الرحمن بن حسان، قال‏:‏ حدثنا محمد بن العباس اليزيدي، قال‏:‏ حدثنا أحمد بن الحارث الخراز، قال‏:‏ حدثنا المدائني، عن أبي عبد الرحمن المبارك، قال‏:‏ شبب عبد الرحمن بن حسان بأخت معاوية، فغضب يزيد، فدخل على معاوية، فقال لمعاوية‏:‏ يا أمير المؤمنين، اقتل عبد الرحمن بن حسان‏.‏ قال‏:‏ ولم‏؟‏ قال‏:‏ شبب بعمتي‏.‏ قال‏:‏ وما قال‏؟‏ قال‏:‏ قال‏:‏

طال ليلي وبت كالمحزون *** ومللت الثواء في جيرون

قال معاوية‏:‏ يا بني، وما علينا من طول ليله وحزنه أبعده الله‏؟‏‏.‏

- وهذا هو مطلع القصيدة عند صاحب الأغاني، وليس فيه ذكر الماطرون - قال يزيد‏:‏ إنه يقول‏:‏

فلذاك اغتربت بالشام ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

قال‏:‏ يا بني وما علينا من ظن أهله‏؟‏ قال‏:‏ إنه يقول‏:‏

هي زهراء مثل لؤلؤة الغ *** واص‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

قال‏:‏ صدق يا بني‏.‏ قال‏:‏ وإنه يقول‏:‏

وإذا ما نسبتها لم تجده ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

قال‏:‏ صدق يا بني، هي هكذا‏.‏

قال‏:‏ إنه يقول‏:‏

ثم خاصرتها إلى القبة ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

قال‏:‏ خاصرتها‏:‏ أخذت بخصرها وأخذت بخصري ولا كل هذا بابني ثم ضحك، وقال‏:‏ أنشدني ما قال أيضاً‏.‏

فأنشده قوله‏:‏

قبة من مراجلٍ نصبوه *** عند حد الشتاء في قيطون

عن يساري إذا دخلت ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

تجعل الند والألوة ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

وقباب قد أشرجت وبيوتٌ *** نطقت بالريحان والزرجون

قال‏:‏ يا بني، ليس يجب القتل في هذا، والعقوبة دون القتل، ولكنا نكفه بالصلة له والتجاوز عنه‏.‏

ونسخت من كتاب ابن النطاح‏:‏ وذكر الهيثم بن عدي عن ابن دأب، قال‏:‏ حدثنا شعيب بن صفوان، أن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت كان يشبب بابنة معاوية، ويذكرها في شعره، فقال الناس لمعاوية‏:‏ لو جعلته نكالاً‏؟‏ فقال‏:‏ لا، ولكن أداويه بغير ذلك‏.‏

فأذن له وكان يدخل عليه في أخريات الناس، ثم أجلسه على سريره معه، وأقبل عليه بوجهه وحديثه، ثم قال‏:‏ إن ابنتي الأخرى عاتبةٌ عليك‏.‏

قال‏:‏ في أي شيءٍ‏؟‏ قال‏:‏ في مدحتك أختها وتركك إياها‏.‏ قال‏:‏ فلها العتبى وكرامةٌ، أنا ذاكرها وممتدحها‏.‏

فلما فعل، وبلغ ذلك الناس، قالوا‏:‏ قد كنا نرى أن نسيب عبد الرحمن بن حسان بابنة معاوية لشيءٍ، فإذا هو على رأي معاوية وأمره‏.‏ وعلم من كان يعرف أنه ليس له بنت أخرى، أنه إنما خدعه ليشبب بها، ولا أصل لها، ليعلم الناس أنه كذب على الأولى، لما ذكر الثانية‏.‏

هذا ما أورده صاحب الأغاني‏.‏ والله أعلم‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد السابع والثلاثون بعد الخمسمائة

وهو من شواهد س‏:‏ الخفيف

ليت شعري وأين مني ليتٌ *** إن لواً وإن ليتاً عناء

على أن الكلمة المبنية إذا أريد بها لفظها فالأكثر حكايتها على ما كانت عليه، وقد تجيء معربةً كما في البيت، كما أعرب ليتٌ الأولى بالرفع على الابتداء، ونصب الثانية مع لو بإن‏.‏

وأورده سيبويه في تسمية الحروف والكلم، قال‏:‏ والعرب تختلف فيها، يؤنثها بعض، ويذكرها بعض‏.‏

وأما ليت وإن فحركت أواخرها بالفتح، لأنها بمنزلة الأفعال، فإذا صيرت واحداً منهما اسماً، فهو ينصرف على كل حال‏.‏ وإن جعلته اسماً للكلمة، وأنت تريد لغة من ذكر لم تصرفها، وإن سميتها بلغة من أنث كنت بالخيار‏.‏

إلى أن قال‏:‏ وأم وو لو فهما ساكنا الأواخر، فإذا صارت كل واحدة منهما اسماً، فقصتها في التأنيث والتذكير، والانصراف وترك الانصراف، كقصة ليت وإن، إلا أنك تلحق واواً آخر فتثقل‏.‏

وذلك لأنه ليس في كلام العرب اسم آخره واو قبلها حرف مفتوح‏.‏

قال أبو زبيد‏:‏

ليت شعري وأين مني ليتٌ *** إن ليتاً وإن لواً عناء

وقال آخر‏:‏ الطويل

ألام على لوٍّ ولو كنت عالم *** بأذناب لوٍّ لم تفتني أوائله

انتهى كلام سيبويه‏.‏

قال الأعلم‏:‏ الشاهد في تضعيف لو، لما جعلها اسماً، وأخبر عنها، لأن الاسم المفرد المتمكن لا يكون على أقل من حرفين متحركين، والواو في لو لا تتحرك، فضوعفت لتكون كالأسماء المتمكنة‏.‏

ويحتمل الواو بالتضعيف الحركة‏.‏ وأراد بلو ها هنا لو التي للتمني، في نحو قولك‏:‏ لو أتيتنا، لو أقمت عندنا، أي‏:‏ ليتك أتيت‏.‏ أي‏:‏ أكثر التمني يكذب صاحبه ويعنيه، ولا يبلغ فيه مراده‏.‏ انتهى‏.‏

والبيت من قصيدة لأبي زبيدٍ الطائي، أورد منها الأعلم في باب النسيب من حماسته ستة أبيات، وهي‏:‏ الخفيف

ولقد مت غير أني حيٌّ *** يوم بانت بودها خنساء

من بني عامرٍ لها شق قلبي *** قسمةً مثل ما يشق الرداء

أشربت لون صفرةٍ في بياضٍ *** وهي في ذاك لدنةٌ غيداء

كل عينٍ متى تراها من الن *** س إليها مديمةٌ حولاء

ليت شعري وأين مني ليتٌ *** إن ليتاً وإن لواً عناء

أي ساعٍ سعى ليقطع شربي *** حين لاحت للصابح الجوزاء

قوله‏:‏ ولقد مت إلخ، يعني أنا لشدة الحزن ميت، إلا أني في عداد الأحياء‏.‏ وبانت‏:‏ فارقت، يريد‏:‏ هجرتني‏.‏

وقوله‏:‏ لها شق قلبي بالكسر، يريد‏:‏ شقت قلبي بحبها، فاستولت عليه‏.‏

وقوله‏:‏ أشربت لون صفرة إلخ، أي‏:‏ صيغت بهذين اللونين‏.‏ وهذا أحمد العنق‏.‏

وقوله‏:‏ كل عين إلخ، كل مبتدأ، ومتى اسم استفهام طرف لتراها، وجملة‏:‏ تراها صفة لعين، ومديمة‏:‏ خبر المبتدأ، وإليها‏:‏ متعلق به، وهو اسم فاعل من أدمت، أي‏:‏ واظبت‏.‏ وحولاء خبر ثان‏.‏ جعلها حولاء لميلها إليها بالنظر، فكأن بها حولاً‏.‏

وقوله‏:‏ ليت شعري إلخ، قد شرحه الشارح في ليت وقال‏:‏ التزم حذف الخبر في ليت شعري مردفاً باستفهام، نحو‏:‏ ليت شعري أتأتيني أم لا‏؟‏ وهذا الاستفهام مفعول شعري‏.‏ فجملة‏:‏ أي ساع سعى في البيت بعده مفعول شعري‏.‏ والشرب، بالكسر‏:‏ النصيب من الماء‏.‏ والصابح‏:‏ من صبحت الإبل، إذا سقيتها في أول النهار؛ والإبل مصبوحة، والقوم صابحون‏.‏ كذا في الجمهرة لابن دريد، وأنشد هذا البيت‏.‏

وقال القالي في المقصور والممدود‏:‏ والجوزاء‏:‏ برجٌ من بروج السماء‏.‏ والعرب تقول‏:‏ إذا طلعت الجوزاء توقدت المعزاء، وكنست الظباء، وعرقت العلباء، وطاب الخباء ‏.‏ وأنشد هذا البيت‏.‏

وزاد صاحب الأغاني بعد هذا‏:‏ الخفيف

فاستظل العصفور كرهاً مع الض *** ب وأوفى في عوده الحرباء

ونفى الجندب الحصى بكراعي *** ه وأذكت نيرانها المعزاء

من سمومٍ كأنها حر نارٍ *** شفعتها ظهيرةٌ غراء

وإذا أهل بلدةٍ أنكروني *** عرفتني الدوية الملساء

عرفت ناقتي شمائل مني *** فهي إلا بغامها خرساء

عرفت ليلها الطويل وليلي *** إن ذا النوم للعيون غطاء

وأورد سبب هذه القصيدة بسنده عن ابن الأعرابي، قال‏:‏ كان الوليد بن عقبة قد استعمل الربيع بن مري بن أوس بن حارثة بن لأم الطائي على الحمى، فيما بين الجزيرة وظهر الحيرة، فأجدبت الجزيرة‏.‏

وكان أبو زبيدٍ في تغلب‏.‏ فخرج لهم ليرعيهم فأبى عليه الأوسي، وقال‏:‏ إن شئت أرعيك وحدك فعلت‏.‏

فأتى أبو زبيد الوليد بن عقبة، فأعطاه ما بين القصور الحمر من الشام إلى القصور الحمر من الحيرة، وجعلها له حمًى، وأخذها من الآخر‏.‏

قال عمر بن شبة في خبره خاصة‏:‏ فلما عزل الوليد عن الكوفة، وولي سعد ابن أبي وقاص مكانه، انتزعها منه وأخرجها من يده، فقال أبو زبيد‏:‏

ولقد مت غير أني حيٌّ *** يوم بانت بودها خنساء

إلى آخر القصيدة‏.‏

وأبو زبيدٍ الطائي‏:‏ شاعر نصرانيٌّ كان في صدر الإسلام، وتقدمت ترجمته في الشاهد الثاني والثمانين بعد المائتين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الثامن والثلاثون بعد الخمسمائة

وهو من شواهد المفصل‏:‏

بوحشٍ إصمت

هو قطعة من بيتٍ للراعي، وهو‏:‏ البسيط

أشلى سلوقيةً باتت وبات به *** بوحشٍ إصمت في أصلابها أود

على أنه إذا سمي بفعل فيه همزة وصل قطعت، كإصمت بكسر الهمزة والميم‏.‏

وتقدم عن الشارح المحقق أنه منقول من فعل أمر، لبرية معينة‏.‏ وقيل‏:‏ هو علم الجنس لكل مكانٍ قفر؛ تقول‏:‏ لقيته بوحش إصمت، وببلد إصمت‏.‏

والوحش‏:‏ المكان الخالي‏.‏ وكسر ميم إصمت، والمسموع في الأمر الضم، لأن الأعلام كثيراً ما تغير عند النقل تبعاً لنقل معانيها، كما قيل في شمس بن مالك، بضم الشين‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏‏:‏وكسر ميم إصمت إلخ، جواب عن سؤال مقدر، وهو أنه لو كان منقولاً من فعل الأمر لكانت الهمزة والميم مضموتين، لأنه يقال‏:‏ صمت يصمت صمتاً من باب نصر، وصموتاً وصمتاً بضمهما بمعنى سكت، واصمت مثله، فأجاب بما ذكره‏.‏

ومثله للأندلسي في شرح المفصل، قال‏:‏ المشهور في مضارع صمت‏:‏ يصمت بالضم، فإما أن يكون الكسر لغة فيه، لم ينقل، وإما أن يكون مما غير في التسمية، كما قالوا‏:‏ شمس بن مالك، بالضم فغيروا لفظ الشمس‏.‏

وإما أن يكون مرتجلاً وافق لفظ الأمر الذي بمعنى اسكت فلا يكون من هذا الفصل‏.‏ انتهى‏.‏

وكذا قال ابن يعيش في شرح المفصل‏.‏

وأجاب ابن الحاجب في أماليه على المفصل بغير هذا، قال‏:‏ وقد أخذ على صاحب المفصل باستشهاده، فإن العرب تقول‏:‏ صمت يصمت، فالأمر فيه بالضم، فكيف جاء إصمت‏؟‏ وجوابه أن يقال‏:‏ إن فعل يأتي على يفعل ويفعل‏.‏

ومنهم من يقول‏:‏ إن سمع للفعل مضارع اتبع، وإلا فأنت فيه مخير، إن شئت قلت‏:‏ يفعل ويفعل‏.‏

ومنهم من يقول‏:‏ إن كثر استعمال المضارع اتبع، وإلا كنت فيه بالخيار‏.‏ انتهى‏.‏

وقال في شرح المفصل‏:‏ واستشهاده بالبيت مستقيم على وجهين‏:‏ أن يثبت أن فعل يجيء على يفعل ويفعل‏.‏والوجه الثاني‏:‏ أن يثبت صمت يصمت، ولا يستقيم على غير ذلك‏.‏وقو بعضهم‏:‏ يجوز أن يكون أصله اصمت ثم غير بالتسمية فغير ثبت‏.‏وأصله أن رجلاً، قال لصاحبه فيها‏:‏ اصمت، تخويفاً، فسميت به‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن وحش إصمت علمٌ على كل مكان قفر كأسامة، وإن كان وحشٌ في أصله بمعنى خالٍ، ولا يخرج بذلك عن أن يكون إصمت علماً منقولاً قدر، ومرتجلاً، كحمار قبان ونحوه من المضافات‏.‏ انتهى‏.‏وهذا كله مبنيٌّ على أنه لم يسمع يصمت بالكسر‏.‏وقد نقله ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل عن الجمهرة لابن دريد، قال‏:‏ قال أبو بكر محمد بن الحسن‏:‏ الصمت معروف، صمت يصمت صمتاً، إذا سكت، وأصمته أنا إصماتاً، إذا أسكته‏.‏ كذا سمعته على شيخنا أبي الحرم مكي بن زبان بكسر الميم في الجمهرة‏.‏ فسقط ما تمحلوه هنا‏.‏وقال ابن جني في الخصائص‏:‏ وأما الفعل المستقبل المنقول إلى العلم فنحو قولهم في اسم الفلاة‏:‏ إصمت، وإنما هو في الأصل أمر من صمت يصمت إذا سكت‏.‏ كأن إنساناً قال لصاحبه في مفازةٍ‏:‏ إصمت يسكته تسمعاً لنبأة أوجسها، فسمي المكان بذلك‏.‏وهذا ونحوه مما ذهب إليه أبو عمرو بن العلاء في قول الهذلي‏:‏

على أطرقا باليات الخي *** م إلا الثمام وإلا العصي

ألا تراه، قال‏:‏ إن أصله أن رجلاً قال لصاحبه هناك‏:‏ أطرقا، فسمي المكان به، فصار علماً له، كما صار إصمت علماً له‏.‏ وقطع الهمزة من إصمت مع التسمية به خالياً من ضميره، هو الذي شجع النحاة على قطع هذه الهمزات إذا سمي بما هي فيه‏.‏فإن قيل‏:‏ فقد قالوا‏:‏ لقيته بوحش إصمتة، ولو كان إصمت في الأصل فعلاً، لما لحقته تاء التأنيث‏؟‏ قيل‏:‏ إنما لحقت هذه التاء في هذا المثال على هذا الحد، ليزيدوا في إيضاح ما انتحوه من النقل، ويعلموا بذلك أنه قد فارقوا موضعه من الفعلية، من حيث كانت هذه التاء لا تلحق هذا المثال فعلاً، فصارت إصمتة في اللفظ كإجردة وإبردة‏.‏ نعم وآنسهم بذلك تأنيث المسمى به، وهو الفلاة‏.‏ انتهى‏.‏وقال الزمخشري في أمثاله‏:‏ لقيته بوحش إصمت‏:‏ المكان الوحش‏:‏ الموحش، وهو الخالي من الإنس‏.‏ وإصمت علم للفلاة القفر، سميت بذلك لأنه لا أنيس بها فينطقوا، ولأنها لشدتها تصمت سالكها‏.‏والدليل تشتبه عليه طرقها فلا يتكلم، لأنه لا يتضح له الهدى فيها‏.‏ ومانعها من الصرف التعريف ووزن الفعل، لأنه بزنة اضرب، وهي مجرورة الموضع بإضافة وحش إليها‏.‏ وقيل‏:‏ اسم بلدة بعينها‏.‏ويروى‏:‏ ببلدة إصمت‏.‏ ويقال‏:‏ تركتني ببلدة إصمتة وبلد إصمت‏.‏ يضرب للرجل الذي لا ناصر له ولا مانع‏.‏ انتهى‏.‏ولم يورد أبو عبيد البكري هذه الكلمة في معجم ما استعجم وأوردها ياقوت في معجم البلدان، وقال‏:‏ إصمت بالكسر وكسر الميم وتاء مثناة‏:‏ اسم علم لبرية بعينها‏.‏قال الراعي‏:‏

أشلى سلوقيةً باتت وبات بها

وقال بعضهم‏:‏ العلم هو وحش إصمت، الكلمتان معاً‏.‏وقال أبو زيد‏:‏ يقال‏:‏ لقيته بوحش إصمت، وببلدة إصمت، أي‏:‏ بمكان قفر‏.‏ وإصمت منقول من فعل الأمر مجرد عن الضمير، وقطعت همزته ليجري على غالب الأسماء‏.‏وهكذا جميع ما يسمى به من فعل الأمر‏.‏ وكسر الهمزة في إصمت، إما لغة لم تبلغنا، وإما أن يكون غير في التسمية به عن أصمت بالضم الذي هو منقول في مضارع هذا الفعل، وإما أن يكون مجرداً مرتجلاً وافق لفظ الأمر الذي بمعنى اسكت‏.‏وربما كان تسمية هذه الصحراء، بهذا الفعل للغلبة، لكثرة ما يقول الرجل لصاحبه، إذا سلكها‏:‏ اصمت لئلا تسمع فتهلك، لشدة الخوف بها‏.‏ انتهى‏.‏فهذه عدة توجيهات لكسر الهمزة والميم، ولتسمية الفلاة به‏.‏وإصمته غير منصرف أيضاً، لكن للعلمية والتأنيث‏.‏والقول بأن إصمت مرتجل لا منقول أسلم، وأسهل، وحينئذ لا يحتاج إلى توجيه كسر الميم، ويكون منع الصرف للعلمية والتأنيث المعنوي، وفي إصمتة التأنيث اللفظي على طريقة واحدة‏.‏والعجب من ابن يعيش فإنه وجه منع الصرف في إصمت بما ذكرنا مع القول بالنقل‏.‏ وكونه علم جنس أظهر من كونه علم شخص لبقعةٍ معينة، كما هو ظاهرٌ من استعمالهم‏:‏ والصحيح أن العلم إنما هو إصمت وإصمتة، لا مجموع وحش إصمت ووحش إصمتة، بدليل أنه يقال‏:‏ بلد إصمت، وصحراء إصمت وغير ذلك، ولم يقل أحد بعملية المجموع فيه، وما يضاف إليهما من وحش وبلد وبلدة وصحراء أيضاً، كما نقله صاحب القاموس، إضافته للتخصيص‏.‏

وقد يجمع إصمت على إصمتين شذوذاً، كأنهم سموا كل قطعةٍ منها بإصمت، إن كان إصمت علم قفرٍ بعينه‏.‏ وإن كان علم جنس فواضح‏.‏ وقد رأيته في شعر أمية ابن أبي الصلت، قال من قصيدة‏:‏ الوافر

وترذى الناب والجمعاء فيه *** بوحش الإصمتين له ذباب

قال شارح ديوانه‏:‏ ترذى من الرذية، أي‏:‏ تترك، وقد أرذيت فهي مراذة‏.‏ والناب‏:‏ الناقة المسنة‏.‏ والجمعاء‏:‏ الذاهبة الأسنان‏.‏ والإصمتين‏:‏ مكانٌ ليس فيه أحد‏.‏

وهو مثلٌ للعرب، يقال‏:‏ تركت فلاناً بوحش الإصمتين‏.‏ وله ذبابٌ ذباب الحمار‏.‏ انتهى‏.‏

واعلم أن ابن المستوفي استشكل كون إصمت منقولاً من الفعل دون ضميره، وقال‏:‏ قول النحاة إن إصمت منقول من فعل الأمر مجرداً من الضمير، فيه نظر، لأنه جمعٌ بين نقيضين، وذلك أنهم إنما سموا به بعد الأمر للمواجهة، فلا بد من الضمير فيه‏.‏

وإذا كان كذلك فهو من باب المسمى بالجملة المركبة من الفعل والفاعل‏.‏ اللهم إلا أن يكونوا نزعوه بعد التسمية تحكماً منهم‏.‏ انتهى‏.‏

أقول‏:‏ لا يرد ما ذكره، فإنهم قالوا‏:‏ إذا سمي بفعل، فإن لم يعتبر ضميره الفاعل فهو مفرد لا ينصرف، وإن اعتبر ضميره فهو جملة محكية، سواء كان الضمير مما يجب استتاره أم لا، بدليل أحمد المنقول من المضارع المتكلم، وتغلب المنقول من المضارع للمخاطب، فالضمير أمر اعتباري يجوز أن يلاحظ ويعتبر، ويجوز عدمه، ولا ينظر إلى مكان تجريده من الفعل حين التسمية‏.‏

واستشكل أيضاً قطع الهمزة بعد التسمية بأنه من باب تحصيل الحاصل، لأنها مقطوعة قبل التسمية، إذ لم تقع حشواً‏.‏

قال‏:‏ وقولهم إنهم قطعوا الهمزة من إصمت مع التسمية به خالياً من الضمير، فيه أيضاً نظر، لأن المكان عندهم إنما سمي بقول الرجل لصاحبه‏:‏ اصمت، يسكته بذلك من غير أن يكون تقدمه كلام قبله، وصله به فوصل الهمزة‏.‏ وكذا كل فعل أمر من يفعل قطعت همزته‏.‏ انتهى‏.‏

أقول‏:‏ مرادهم التزام قطعها بعد التسمية درجاً وابتداء، بخلاف إصمت قبل التسمية، فإن الهمزة لا تقطع في الدرج، وهذا ظاهر‏.‏

وأما ما قاله صاحب القاموس من أن إصمت وإصمتة بقطع الهمزة ووصله فمشكل، ولم أره لغيره، وكأنه مأخوذ من مفهوم قول أبي زيد، كما نقله ابن مكرم في لسان العرب، وهو أن بعض العرب قطع الألف من إصمت ونصب التاء‏.‏

ومفهومه أن أكثر العرب يصل الألف ويسكن التاء، ويكون حينئذ هذا من باب التسمية بالجملة المحكية‏.‏ ولم أر من قاله‏.‏

وأما وصلها في إصمتة فلم أعرف وجهه، وقد ذكروا همزة الوصل في أسماءٍ معدودة، وليس هذا منها، اللهم إلا أن يقال توصل بنقل حركتها إلى ساكن قبلها، كقولك‏:‏ من إصمتة‏.‏ والله أعلم‏.‏

وأما أطرقا فقد أدرجه صاحب المفصل في المنقول من فعل الأمر مع إصمت‏.‏ وظاهره أنه كإصمت غير منصرف، وأنه من التسمية بالفعل دون ملاحظة الضمير البارز الفاعل‏.‏

ولو لاحظه لذكره في العلم المركب من جملة وغيرها، والصواب ذكره في قسم المركب، لأنه جملة مركبة من فعل وفاعل قطعاً‏.‏

ولهذا قال ابن الحاجب في شرحه‏:‏ تمثيله بقوله‏:‏ أطرقا في غير قسمٍ المركب ليس بمستقيم‏.‏ وأجاب ابن يعيش بأن أطرقا لها جهتان‏:‏ جهة كونه أمراً، وجهة كونه جملة‏.‏ فإيراده هنا من حيث أنه أمر‏.‏ ولو أورده في المركبات من حيث هو جملة لجاز‏.‏ انتهى‏.‏

وفيه نظر؛ فإن التقسيم يصير حينئذ فاسداً، لأن كل تقسيم صحيح ذكرت فيه أنواعٌ باعتبار صفاتٍ مصححةٍ للتقسيم يجب أن يكون صفة كل قسم منتفية عن بقية الأقسام، وإلا لم يصح التقسيم باعتبارها، وها هنا التقسيم قد ذكر فيه المركب فيجب أن يكون التركيب منتفياً عن بقية الأقسام‏.‏

وأجاب بعضهم بأنه يصح أن يكون أطرقا أمراً للواحد، وتثنيته تثنية الفعل لا الفاعل، كأنه قال‏:‏ أطرق أطرق،كما قيل في‏:‏ ألقيا في جهنم ، وفي‏:‏ قفا نبك ، تأكيداً ومبالغة‏.‏

وأجاب بعضٌ آخر بأن الألف يجوز أن تكون بدلاً من نون التوكيد الخفيفة، والأصل أطرقن، فأبدلت للوقف ألفاً‏.‏

ويرده ما حكوا في وجه التسمية من أن رجلاً قال لصاحبيه في موضع‏:‏ أطرقا، تخويفاً لهما، فسمي به‏.‏

قال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم‏:‏ أطرقا‏:‏ موضعٌ بالحجاز‏.‏ قال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ غزا ثلاثة نفرٍ في الدهر الأول، فلما صاروا إلى هذا الموضع سمعوا نبأة، فقال أحدهم لصاحبيه‏:‏ أطرقا، أي‏:‏ اسكتا‏.‏

وقال في موضع آخر‏:‏ أي‏:‏ الزما الأرض، فسمي به ذلك الموضع‏.‏ قال أبو الفتح بن جني‏:‏ دل قول أبي عمرٍو أن الموضع سمي بالفعل، وفيه ضميره لم يجرد عنه، كما يقال‏:‏ لقيته بوحش إصمت، أي‏:‏ بفلاة يسكت فيها المرء صاحبه، فيقول له‏:‏ اصمت، إلا أنه جرد إصمت من الضمير، فأعربه ولم يصرفه، للتعريف والتأنيث ووزن الفعل‏.‏ انتهى كلام أبي عبيد‏.‏

وقال ياقوت في معجم البلدان‏:‏ قال أبو عمرو‏:‏ أطرقا‏:‏ اسمٌ لبلد بعينه من فعل الأمر، وفيه ضمير وهي الألف‏.‏ كأنه سالكه سمع نبأة، فقال لصاحبيه‏:‏ أطرقا‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ كان ثلاثة نفر بهذا المكان، فسمعوا صوتاً، فقال أحدهم لصاحبيه‏:‏ أطرقا، فسمي بذلك‏.‏ انتهى‏.‏

وقيل‏:‏ إن أطرقا غير علم لأرض، فلا شاهد فيه‏.‏ ثم اختلفوا، فقال قوم‏:‏ هو جمع طريق، كصديق وأصدقاء، وقصر للضرورة‏.‏ حكاه ياقوت‏.‏

وقال أبو عبيد في المعجم‏:‏ قال بعضهم‏:‏ هو جمع طريق على لغة هذيل، ويجوز أن يكون مقصوراً من الممدود، نحو‏:‏ نصيب وأنصباء‏.‏ وعلى هذا استشهد به الحربي‏.‏ انتهى‏.‏

قال ابن يعيش‏:‏ يكون على هذا حذف الألف الأولى التي للمد، فعادت ألف التأنيث إلى أصلها، وهو القصر‏.‏ وينبغي أن تكتب الألف بالياء‏.‏ انتهى‏.‏

وقال ثعلب، كما نقله أبو عبيد أيضاً‏:‏ قوله على أطرقا، أراد على أطرقة، فأبدل من تاء التأنيث ياءً، كما يقال في شكاعي شكاعة كما يبدل أيضاً من الألف تاء‏.‏

قال الراجز‏:‏ الرجز

من بعدما وبعدما وبعدمت *** صارت نفوس القوم عند الغلصمت

انتهى‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ الرواية‏:‏ علا أطرقا، وقال ابن يعيش‏:‏ رواه بعضهم‏:‏ بضم الراء، كأنه جعله جمع طريق، ويجعل علا فعلاً ناصباً له من العلو، وفيه ضمير، كأنه قال‏:‏ السيل علا أطرقاً‏.‏ وعلى هذا يكون قد أنث الطريق؛ لأن فعيلاً وفعالاً إنما يجمعان على أفعل إذا كان مؤنثاً، نحو عناق وأعنق، ويكون باليات الخيام من صفة أطرقاً‏.‏ انتهى‏.‏

وحكاه أبو عبيد أيضاً، قال‏:‏ ويروى‏:‏ علا أطرقاً من العلو‏.‏ وجمع طريق على أطرق يدل على تأنيثه، لأن تكسير المؤنث كعناق وأعنق وعقاب وأعقب‏.‏

وقال ياقوت‏:‏ قال أبو الفتح‏:‏ ويروى‏:‏ علا أطرقاً، فعلا فعلٌ ماض‏.‏ وأطرقا‏:‏ جمع طريق‏.‏ فمن أنث الطريق جمعه على أطرق، مثل عناق وأعنق، ومن ذكره جمعه على أطرقاً، كصديق وأصدقاء، فيكون قد قصره ضرورة‏.‏

هذا، والصحيح أن أطرقاً علم أرض، بدليل قول عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي، يخاطب بني كعب بن عمرو، من خزاعة، وكان يطالبهم بدم الوليد بن المغيرة، أبي خالد بن الوليد، لأنه مر برجل منهم يصلح سهاماً، فعثر بسهم منها فجرحه، فانتقض عليه، فمات‏:‏ الطويل

إني زعيمٌ أن تسيروا وتهربو *** وأن تتركوا الظهران تعوي ثعالبه

وأن تتركوا ماءً بجزعة أطرق *** وأن تسلكوا أي الأراك أطايبه

وإنا أناسٌ لا تطل دماؤن *** ولا يتعالى صاعداً من نحاربه

وقالوا في تفسير هذا‏:‏ الجزعة والجزع بمعنًى واحد، وهم معظم الوادي‏.‏ وقال ابن الأعرابي‏:‏ هو ما انثنى منه‏.‏ وأطرقا هنا، وقع مضافاً إليه، وهو علم موضع، سمي بفعل الأمر كما تقدم‏.‏ ولا يتأتى هنا، ما تمحلوه في ذلك البيت‏.‏

قال ياقوت‏:‏ وهذا الشعر يؤذن بأن أطرقا موضع من ضواحي مكة، لأن الظهران هناك، وهي منازل كعب بن خزاعة‏.‏ فيكون أطرقا من منازلها بتلك النواحي، وهي من منازل هذيلٍ أيضاً، ولذلك ذكروه في شعرهم‏.‏ والله أعلم‏.‏ انتهى‏.‏

وقد آن لنا أن نرجع إلى المقصود، فنقول‏:‏ البيت الشاهد من قصيدةٍ للراعي واسمه عبيد بن حصين النميري، وتقدمت ترجمته في الشاهد الثالث والثمانين بعد المائة‏.‏

وهي من قصيدة مدح بها عبد الله بن معاوية بن أبي سفيان، أولها‏:‏ البسيط

طاف الخيال بأصحابي وقد هجدو *** من أم علوان لا نحوٌ ولا صدد

فأرقت فتيةً باتوا على عجلٍ *** وأعيناً مسها الإدلاج والسهد

هل تبلغني عبد الله دوسرةٌ *** وجناء فيها عتيق الني ملتبد

كأنها يوم خمس القوم عن جلبٍ *** ونحن والآل بالموماة نطرد

قرمٌ تعداه عادٍ عن طروقته *** من الهجان على خرطومه الزبد

وناشطٌ أسفع الخدين ألجأه *** نفح الشمال فأمسى دونه العقد

ثم وصف الثور والأطلال، فقال‏:‏

حتى إذا هبط الأحدان وانقطعت *** عنها سلاسل رملٍ بينها وهد

صادف أطلس مشاءً بأكلبه *** إثر الأوابد ما ينمي له سبد

أشلى سلوقةً باتت وبات به *** بوحش إصمت في أصلابها أود

يدب مستخفياً يغشي الضراء به *** حتى استقامت وأعراه لها جدد

فجال إذ رعنه ينأى بجانبه *** وفي سوالفها من مثله قدد

هجدوا‏:‏ رقدوا‏.‏ والنحو‏:‏ التوجه‏.‏ والصدد‏:‏ القرب‏.‏ وخبر نحو محذوف، أي‏:‏ منها‏.‏ والإدلاج‏:‏ السير من أول الليل‏.‏ والسهد، بفتحتين‏:‏ الأرق والسهر‏.‏ وعبد الله هو أخو يزيد بن معاوية‏.‏ في الجمهرة‏:‏ وعبد الله بن معاوية كان أحمق الناس، وأمه فاختة بنت قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف‏.‏ وأم يزيد ميسون بنت بحدل الكلبية‏.‏ والدوسرة، بالفتح‏:‏ الناقة الضخمة‏.‏ والوجناء‏:‏ الشديدة‏.‏ والني، بفتح النون‏:‏ السمن والشحم‏.‏ والخمس، بالكسر من أظماء الإبل‏:‏ أن ترعى ثلاثة أيام، وترد اليوم الرابع‏.‏

والجلب، بضم الجيم وفتح اللام‏:‏ جمع جلبة، وهي الشدة‏.‏ يقال‏:‏ أصابتنا جلبة الزمان وكلبته‏.‏ والآل‏:‏ السراب بعد الزوال‏.‏ والموماة، بالفتح‏:‏ الفلاة‏.‏

وقرم‏:‏ خبر كأنها، وهو بفتح القاف وسكون الراء‏:‏ البعير المكرم لا يجمل عليه ولا يذلل، ولكن يكون للفحلة‏.‏ وتعداه، أي‏:‏ تعدى عليه‏.‏ وعادٍ‏:‏ من عدا عليه، أي‏:‏ تجاوز عليه الحد‏.‏ والطروقة‏:‏ أنثى الفحل‏.‏

يقال‏:‏ طرق الفحل الناقة طرقاً، فهي طروقة، فعولة بمعنى مفعولة‏.‏ والهجان من الإبل، البيض، يستوي فيه المؤنث والمذكر والواحد والجمع‏.‏ والخرطوم‏:‏ الأنف‏.‏ والزبد‏:‏ الرغوة التي تظهر على فم البعير عند هيجانه‏.‏

شبه ناقته في حالة جهدها وشدتها، وهو سائر في شدة الهجير، بفحل هائج، حال دون أنثاه حائل‏.‏ وفيه مبالغاتٌ لا تخفى‏.‏

وقوله‏:‏ وناشط إلخ، يعني أنها إما تشبه ذلك الفحل، وتشبه الناشط، وهو الثور الوحشي يخرج من أرضٍ إلى أرض‏.‏ والأسفع‏:‏ الأسود، من السفعة بالضم، وهو سوادٌ مشربٌ حمرة، يعني اسود وجهه من شدة الحر، ومن شدة البرد والريح‏.‏ وألجأه‏:‏ اضطره‏.‏ والنفح‏:‏ الهبوب‏.‏ والشمال‏:‏ الريح المعروفة‏.‏

قال الأصمعي‏:‏ ما كان من الرياح نفح فهو برد، وما كان لفح فهو حر، والعقد، بفتح العين وكسر القاف وفتحها‏:‏ ما تعقد من الرمل، أي‏:‏ تراكم، الواحدة عقدة كذلك‏.‏

يعني فهو مسرعٌ ليصل كناسه ومأواه‏.‏ والأحدان، بالضم‏:‏ قطع رمل متفرقة،والأصل وحدانٌ جمع أوحد‏.‏ ووهد، بضمتين‏:‏ جمع وهاد، وهو جمع وهدة، وهو المكان المطمئن‏.‏ وصادف، أي‏:‏ ذلك الناشط‏.‏ وأطلس مفعوله، يريد به صياداً وقانصاً‏.‏ والأطلس، قال في القاموس‏:‏ هو الرجل يرمى بقبيح‏.‏ والسارق، والذئب الأمعط‏.‏

وفي الصحاح‏:‏ الأطلس‏:‏ الخلق، وكذلك الطلس بالكسر، والجمع أطلاس‏.‏ ورجل أطلس الثوب‏.‏

قال ذو الرمة يصف قانصاً‏:‏ البسيط

مفزعٌ أطلس الأطمار ليس له *** إلا الضراء وإلا صيدها نشب

ومشاءً‏:‏ مبالغة ماشٍ، أي‏:‏ كاسب‏.‏ وأكلب‏:‏ جمع كلب‏.‏ والأوابد‏:‏ جمع آبدة، وهي الوحوش‏.‏ وينمي، من نمى المال وغيره ينمي نماءً‏:‏ زاد‏.‏ والسبد‏:‏ الصوف، كنى به عن المال والماشية‏.‏

وقوله‏:‏ أشلى سلوقية ، فاعل أشلى ضمير أطلس، المراد به القانص‏.‏

قال أبو زيد‏:‏ أشليت الكلب‏:‏ دعوته‏.‏

وقال ابن السكيت‏:‏ يقال‏:‏ أوسدت الكلب بالصيد وآسدته، إذا أغريته به‏.‏ ولا يقال‏:‏ أشليته، إنما الإشلاء الدعاء‏.‏ يقال‏:‏ أشليت الشاة والناقة، إذا دعوتما بأسمائهما لتحلبهما‏.‏

وقول زياد الأعجم‏:‏ الطويل

أتينا أبا عمرٍو فأشلى كلابه *** علينا فكدنا بين بيتيه نؤكل

يروى‏:‏ فأغرى كلابه‏.‏ كذا في الصحاح‏.‏ وسلوقية، أي‏:‏ كلاباً سلوقية‏.‏

قال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم‏:‏ سلوق، بفتح أوله وضم اللام‏:‏ موضع تنسب إليه الكلاب السلوقية والدروع‏.‏ وفي كتاب العين‏:‏ موضعٌ باليمن تنسب إليه الكلاب‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ السلوقي من الدروع والكلاب‏:‏ أجودها‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ إنما هي منسوبة إلى سلقية، بفتح أوله وثانيه وإسكان القاف وتخفيف الياء، وهو موضعٌ بالروم‏.‏ فغيره النسب‏.‏ هكذا حكى أبو بكر‏.‏

وفي البارع عن أبي حاتم‏:‏ السلوقية من الكلاب منسوبةٌ إلى مدينة من مدائن الروم، يقال لها‏:‏ سلقية، فأعربت‏.‏

قال أبو حاتم‏:‏ وقال أبو العالية‏:‏ إنما يقال لها سلوقية، وقد دخلتها، وهي عظيمة، ولها شأن‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ باتت وبات بها ، قال صاحب المصباح‏:‏ بات، له معنيان أشهرهما اختصاص الفعل بالليل، كما اختص الفعل في ظل بالنهار‏.‏ فإذا قلت‏:‏ بات يفعل كذا فمعناه فعله بالليل‏.‏

وقال الليث‏:‏ من قال بات بمعنى نام فقد أخطأ، لأنك تقول بات يرعى النجوم، ومعناه ينظر إليها، وكيف ينام من يراقب النجوم‏.‏

والمعنى الثاني تكون بمعنى صار، يقال‏:‏ بات بموضع كذا، أي‏:‏ صار به، سواءٌ كان في ليل ونهار‏.‏ وعليه قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ فإنه لا يدري أين باتت يده ‏.‏ والمعنى صارت ووصلت‏.‏ انتهى‏.‏

وقال الشارح المحقق‏:‏ وتجيء بات تامة بمعنى‏:‏ أقام ليلاً ونزل، سواء نام ولم ينم‏.‏ وفي كلامهم‏:‏ سر وبت‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ في أصلابها أود ، أي‏:‏ في أصلاب الكلاب السلوقية‏.‏ إذ لكل كلبٍ صلبٌ‏.‏ ولهذا قدرنا موصوف السلوقية جمعاً، ولقوله‏:‏ بأكلبه‏.‏

وقدر بعضهم تبعاً لابن الحاجب‏:‏ كلبةً سلوقيةً‏.‏ ووجه جمع الأصلاب بجعل كل طائفة من الفقر صلباً‏.‏ وله العذر لأنه لم يقف على ما قبله‏.‏

والصلب‏:‏ وسط الظهر من العنق إلى العجز، وهي فقرات، أي‏:‏ خرزات منتظمة‏.‏ والمتنان يكتنفان يميناً وشمالاً‏.‏ والأود، بفتحتين‏:‏ الاعوجاج‏.‏ والجملة حالٌ من ضمير الكلاب، وهي حالٌ لازمة، لأن الكلاب السلوقية يكون أوساطها مخروطة الشكل خلقة‏.‏

قال الأصمعي‏:‏ إذا كان في ظهر الكلب احديدابٌ قليل كان أفره له، وكذلك إذا كان واسع الفقحة كان أسرع لجريه، وكذلك من الدواب‏.‏ وكذا إذا اتسع منخراه وشدقاه‏.‏

فقوله‏:‏ أشلى سلوقية استئناف بعد الإخبار عن الناشط بما ذكره‏.‏ وأراد‏:‏ أشلى عليه، أي‏:‏ أغرى الكلاب على الناشط‏.‏

وجملة‏:‏ باتت إلخ، استئناف بيانيٌّ، كأنه قيل‏:‏ فما صنعت‏؟‏ قال‏:‏ باتت‏.‏ وقيل الجملة صفة سلوقية‏.‏ وبات هنا تامة كما نقلنا عن الشارح المحقق‏.‏

وقوله‏:‏ وبات بها ، أي‏:‏ وبات الصياد مع السلوقية، فالباء بمعنى مع، والضمير للسلوقية‏.‏

وقوله‏:‏ بوحش إصمت الباء بمعنى في، متعلق بأحد الفعلين‏.‏

وقال ابن الحاجب في أماليه‏:‏ المجرور في قوله‏:‏ بوحش، يتعلق بأشلى، وتقديره‏:‏ أشلى سلوقية بوحش هذه البرية، باتت السلوقية في هذه البرية‏.‏ وبات بها، أي‏:‏ عندها، والضمير للسلوقية‏.‏ انتهى‏.‏

يريد أن الضمير في قوله‏:‏ عندها للسلوقية، وأما ضمير بها فهو لوحش إصمت‏.‏

وصرح به في شرح المفصل، قال‏:‏ بها، أي‏:‏ بوحش إصمت‏.‏ وأضمر لأنه متقدم في المعنى لأشلى ولباتت الأول‏.‏ انتهى‏.‏

وكذا صنع الأندلسي، قال‏:‏ أعمل الفعل الأول، وأضمر الثاني‏.‏ وروى أبو الحسن علي بن عبد الله الطوسي‏:‏

أشلى سلوقيةً زلاًّ جواعره *** بوحش إصمت‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ

والزل، بضم الزاي المعجمة وتشديد اللام‏:‏ جمع أزل، وهو الممسوح العجز‏.‏ والجواعر‏:‏ جمع جاعرة، وهو موضع رقمة است الحمار‏.‏

وقوله‏:‏ يدب مستخفي إلخ، دب يدب من باب ضرب، أي‏:‏ مشى مشياً رويداً‏.‏ وفاعله ضمير الصياد‏.‏ وكذلك ضمير يغشي مضارع أغشى، بمعنى أحاط‏.‏ والضراء مفعوله، وهي جمع ضروةٍ بالكسر، وهو ولد الكلب‏.‏ وضمير بها للسلوقية‏.‏

وجملة‏:‏ يغشى حالٌ من ضمير يدب‏.‏ وحتى بمعنى إلى‏.‏ وأعراه‏:‏ كشفه‏.‏ والضمير للناشط‏.‏ وجدد فاعله، وهو بفتحتين‏:‏ الأرض الصلبة‏.‏

وقوله‏:‏ فجال، من الجولان، وفاعله ضمير الناشط، وإذ‏:‏ ظرفٌ لجال، ورعنه من الروع، وهو الذعر، والنون ضمير الكلاب السلوقية، وينأى‏:‏ يبعد‏.‏

يريد أن الناشط نجا من يد الكلاب والحال أن في سوالف الكلاب من جلد مثل هذا الناشط قدداً‏.‏ والسالفة‏:‏ صفحة العنق‏.‏ والقدد‏:‏ جمع قدة، وهو سير غير مدبوغ‏.‏

وأما البيت الثاني فهو لأبي ذؤيبٍ الهذلي، وقد تقدمت ترجمته في الشاهد السابع والستين من قصيدة عدتها أربعة عشر بيتاً ذكر من أولها دروس الديار وطموسها، إلى أن رثى ابن عمه نشيبة بخمسة أبيات من آخرها‏.‏

وأولها‏:‏ المتقارب

عرفت الديار كرقم الدو *** ة يزبرها الكاتب الحميري

إلى أن قال بعد أبيات ثلاثة‏:‏

على أطرقا باليات الخيام

إلى آخره‏.‏ يزبرها‏:‏ يكتبها‏.‏

وذكر الحميري لأن الكتابة أصلها من اليمن‏.‏ يريد‏:‏ عرفت رسوم الديار، وآثارها خفية كآثار الخط القديم‏.‏

وقوله‏:‏ على أطرقا ، قال السكري في شرحه‏:‏ أراد‏:‏ عرفت الديار على أطرقا‏.‏ والثمام‏:‏ شجر يلقى على الخيام‏.‏ والعصي‏:‏ خشب بيوت الأعراب‏.‏ وقوافي هذه القصيدة إن شددتها وصلتها، وإلا خفضتها‏.‏ انتهى‏.‏

والخيمة عند العرب‏:‏ بيتٌ من عيدان‏.‏ والثمام‏:‏ نبتٌ ضعيف يحشى به خصاص البيوت ويستر به جوانب الخيمة‏.‏ فالثمام والعصي استثناء من الخيام، ويكون الاستثناء متصلاً‏.‏

قال ابن يعيش هذه القصيدة تروى مطلقةً مرفوعة، وتروى مقيدة ساكنة، وهي من المتقارب‏.‏ فمن أطلقها كانت من الضرب الأول ووزنه فعولن عصي يو‏.‏ ومن قيدها كانت من الضرب الثالث، وهو المحذوف‏.‏ فعل عصي‏.‏

وقوله‏:‏ على أطرقا نصبٌ على الحال من الديار، وكذلك باليات الخيام حال‏.‏

والمراد‏:‏ عرفت الديار على أطرقا في هذه الحال‏.‏ وقوله‏:‏ إلا الثمام وإلا العصي يروى برفع الثمام ونصبه، فمن نصب فلا إشكال فيه لأنه استثناء من موجب‏.‏ ومن رفع فبالابتداء والخبر محذوف، والتقدير‏:‏ إلا الثمام وإلا العصي لم تبل‏.‏

ومن نصب الثمام ورفع العصي فإنه يحمله على المعنى، وذلك أنه لما قال بليت، إلا الثمام، كان معناه بقي الثمام، فعطف على هذا المعنى وتوهم اللفظ‏.‏ ومن قيد القافية جاز أن تكون العصي مرفوعة كالمطلقة على ما ذكرنا، وجاز أن تكون منصوبةً بالعطف على الثمام، إلا إنه أسكن للوقف‏.‏ وما فيه أل يكون الوقف عليه كالمرفوع والمجرور‏.‏ انتهى‏.‏

وقال صاحب المقتبس‏:‏ ويروى‏:‏ باليات، مرفوعاً ومنصوباً على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي‏:‏ هي، وعلى الحال‏.‏ وقوله‏:‏ على أطرقا متعلق بعرفت‏.‏

قال بعض فضلاء العجم‏:‏ ويجوز أن يكون باليات على رواية الرفع مبتدأ وخبره على أطرقا، والإضافة كسحق عمامة‏.‏ وعلى هذا كان كلاماً منقطعاً عن الأول وإخباراً ثانياً عن اندراس المنازل‏.‏

وقال ابن الحاجب في الإيضاح‏:‏ باليات الخيام حالٌ من الديار‏.‏ وإلا الثمام استثناءٌ منقطع‏.‏ وبعض الناس ينشد باليات بالرفع، يجعله مبتدأ‏.‏ وبعضهم ينشده إلا الثمام وإلا العصي بالرفع، وليس بصواب، وإنما يجوز بناء الرفع على وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ على الإتباع على المعنى دون اللفظ، فيكون مثل‏:‏ أعجبني ضرب زيدٍ العاقل بالرفع‏.‏

والثاني‏:‏ إما على قولهم‏:‏ ما جاءني أحدٌ إلا حمارٌ على اللغة التميمية‏.‏ فقوله‏:‏ باليات الخيام، الخيام مرفوعة من حيث المعنى، فكأنه قال‏:‏ باليات خيامها، فيكون قوله‏:‏ إلا الثمام على اللغة التميمية، وإما على أن إلا بمثابة غير‏.‏ وكلٌّ منهما ضعيف‏.‏

أما أعجبني ضرب زيدٍ العاقل فلأن زيداً معرب، والتوابع إنما تجري على متبوعاتها على حسب إعرابها‏.‏

وأما ما جاءني أحدٌ إلا حمار، فلأن ذلك إنما يثبت في النفي، مع أنه فيه ضعيف، لأن الحمار ليس من جنس الأحد، فلا يكون بدلاً، وأما كون إلا بمثابة غير فشرطه في الفصيح أن تكون تابعةً لجمع منكر غير منحصر، وذلك مفقود‏.‏ انتهى‏.‏

وتوجيه ابن يعيش لرواية الرفع، أسلم من هذا‏.‏ فتأمل‏.‏ فلا يرد عليه ما ذكره‏.‏

وأنشد بعده‏:‏